الاثنين، 10 أكتوبر 2022

لا يمكن محو اليمني

د. مروان الغفوري

منتصف نوڤمبر القادم سيبلغ سكان الأرض ٨ مليار!  ومع نهاية القرن الحالي سيكون ثلث العالم من السود (تقرير أممي). شكل الطاقة آخذ في التغير، السوق انتقل شرقا، وفي طريقه الآن إلى إعادة توزيع نفسه أفقيا مع بروز قوى جديدة.

خلال أقل من خمس سنوات ستتجاوز الهند الصين بالنسبة لعدد السكان، وستخلق الواقعية الديموغرافية الجديدة واقعا جيوسياسيا جديدا (الهند أمة ديموقراطية، بخلاف الصين). كورونا وأوكرانيا أحدثتا تغييرا جوهريا في نظرنا للعولمة، وفي الفكرة نفسها.

 الازدحام الرهيب في العالم، سباق التسلح الجديد، وانشطار العالم من جديد إلى معسكرين ديموقراطي وأوتوقراطي، كما يبشر بايدن، جاء على حساب العولمة والحداثة. داخل هذه التبدلات بدا الشر الإيراني أقل من تصور الرجل الأبيض السابق عنه، ما يطرح احتمالا برفع الحصار عن إيران وتركها تركض وراء مشروعها الرسولي. العالم الإيراني يحيط بالسعودية من كل جانب، وحين تصبح تلك الدولة ذات أهمية أقل بالنسبة لسوق الطاقة فإن ابتلاعها من قبل عالم إيران سيكون ممكنا ومتفهما.

 في العام ١٨٠٢ عاد السعوديون، في التأسيس الثاني، بحمولة خمسة آلاف بعير من كنوز حوزات جنوب العراق. وقد يستدير التاريخ وتخرج الجمال، وئيدة، من الحجاز إلى عالم إيران شمالا وجنوبا وشرقا.

الغطرسة السعودية - الإماراتية لا تأخذ التاريخ في الحسبان، ولا حتى المستقبل. في مسرحية "جبال الصوان" للرحابنة يسيطر الطاغية على الجبل ويقتل حاكمه، ثم يفرض سلطانه الرهيب معتقدا أن هيمنته على الجبل صارت أبدية. السلاح لوحده لا يكفي ما دام أهل الجبل يعتقدون أنه يخصهم، إيمانهم جعلهم دائما في انتظار المخلص. كانوا يغنون، ليتذكروا وليبقوا حزنهم حيا وحقدهم مزدهرا:

 

مين ما كان بيتمرجل علينا

مين ما كان بيتنمرد علينا

بدنا نعرف شو سوينا؟

 

بعد عقد من الزمن تخرج ابنة شيخ الجبل القتيل، فيروز. تغني وتأخذ الناس خلف ندائها وأغانيها، وتواجه المحتل المدجج بالبارود. تقتل في المكان الذي قتل فيه والدها، فيكون دمها على دم أبيها النار التي دحرت المحتل وأخرجته من الأرض.

كل شيء آيل للتبدل، ولا يمكنك أن تلغي التاريخ بشاص في عدن، أو تزيفه بشاصين في صنعاء. اليمن بلاد تخص أجدادنا، ورثناها منهم، وستعود لأبنائنا ما داموا يعتقدون أنها لهم، مهما "تمرجل" عليهم مين ما كان. فقد تأتي فتاة بعد سنين تغني، فقط تغني وتخلق ثورة، وتخلق تحريرا، وتعيد الجبل لأهل الجبل

لا بد للصورة أن تكتمل: التشطير، الإمامة، المنفى، وتلاشي الجمهورية اليمنية بصورة نهائية. علقنا في أنصاف الحقائق، الحقيقة الكاملة هي باب الخروج، وهي وقود الغد ونهره

لسنا أول أمة تفككت. فبعد حرب الثلاثين عاما تشظت ألمانيا إلى ٣٠٠ دولة. شيء واحد بقي في مكانه، لم يستطع التاريخ محوه ولا إخراجه من المعادلة: الألماني.

لتحتل إيران شمالنا، ولتنصب عليا حاكما (أخيرا كسب معركة بعد ١٤ قرنا من التيه).

 وليحكم  الخليجيون جنوبنا، ليمضوا في مشروعهم فالطريق سالك. 

انتهى الحاضر، وجاء الدور على التاريخ.

وكما تعلمنا من تاريخ أمم وشعوب أخرى:

يمكن إخضاع اليمن، هزيمتها، تفكيكها، تغيير ملامحها، ضغطها، إسدال الستار عليها. ولا يمكن محو اليمني، لا كمعنى ولا كفاعل فرد داخل التاريخ.  اليمني ليس صفة بل تاريخا، واليمن ليست شأنا في السياسة بل دالة في التاريخ. لا يمكنك محوها إلا باقتلاع التاريخ نفسه ومحو كتبه.

إمبراطوريات كثيرة جرت عليها الأيام فأبلغت مستعمراتها بالحقيقة المرة: تدبروا أمركم، وسنتدبر أمرنا. وكر التاريخ، وخرج المهزومون من القبو.

 فقبل ٤٠ سنة وقف أزعر في عدن وألقى خطابا فوق سفينة "سوڤيتية" قائلا إن بلاده جزء.من تلك الإمبراطورية التي لا تعرف الهزيمة. لم يعطه التاريخ سوى أعوام قليلة حتى صار هو وروسيا والسفينة جزء من الماضي.

كل شيء قابل للتبدل، وبأسرع مما نظن.

فلنسحب كرسيا، ولنشاهد.

نخبكم يا الربع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق