فن كتابة السيرة الذاتية...الخبرة أم
التجربة
مقدمة
ما أن
يتخرج الطالب من الجامعة حتى يشمر باحثاً عن عمل. ويظن الطالب أن الأمر
سهلا، فيجهز سيرة ذاتية (أيّ كلام) ويبدأ في إرسالها إلى جهات العمل.
هنا تواجهه عدة مشاكل. منها، ماذا كتب في السيرة الذاتية وهل سيقبل
المُشغّل سيرة ذاتية من خريج؟ وكيف يكتب خبراته وما هي خبراته
أصلا؟
المشكلات الأولى والثانية والرابعة سأتناولها في مقال منفصل
في معرض حديثي عن السير الذاتية. لكن سأركز هنا على المشكلة الثالثة
وهي كيف سأكتب خبراتي. وهذا السؤال ليس حكرا على الخريج الجديد بل تجد
عاملا مخضرما يسأل نفس السؤال أيضا. وبالمناسبة، سوف أستخدم كلمة
(عامل) للدلالة على الموظف والاستشاري وكل إنسان له عمل لأن كلمة موظف
مقيدة بالعامل الذي يعمل لدى فرد أو مؤسسة بينما كلمة عامل مطلقة تشمل
الأعمال الحرة أيضا.
ما هي الخبرة؟
هذا
السؤال هو مربط الفرس. أحيانا يحار العامل في معرفة أو تشخيص خبراته.
وبهذا يفقد أهم ميزة تنافسية له في السوق وهي الخبرة.فبعض العاملين
المخضرمين لديهم تجارب كثيرة لكن لا ينتبهون إليها، وكذلك الخريج
الجديد أيضا. التشخيص أهم طرق العلاج، أليس كذلك؟ فإذا عرف الإنسان
خبراته سوف يسهل عليه صياغتها في إطار مهني مقبول. الكثير من العاملين
يمرون بتجارب كثيرة جدا لكنهم يجهلون تجاربهم هذه أو خبراتهم. خبرات أم
تجارب؟؟؟ وهل ثمة فرق؟ نعم يوجد فرق، والمشكلة تكمن ليس في عدم معرفة
الفرق فقط بل تمتد لتشمل الخلط بينهما أو عدم الاهتمام بذلك الفرق.
وهذه التحديات تقريبا يجمعها رابط واحد وهو الفارق الذي يميز الخبرة عن
التجربة.
فما الفرق بين التجربة والخبرة؟ وأيهما يكتب في السيرة
الذاتية؟
أولا: التجربة أم الخبرة؟
التجربة هي قيام الإنسان بتجريب أو ممارسة أعمال تتطلب جهدا
يدويا أو ذهنيا. ويصاحب تلك التجربة عملية اختبار وخطأ ثم معرفة وخبرة.
فالتجربة هي ممارسة بالدرجة الأولى. وهذا يعني أنه ليس من الضروري أن
يكون صاحب كل تجربة قد تحصّل على خبرة. فالخبرة هي تراكم للتجارب عبر
استخلاص العبر التي تتحول على المدى الطويل إلى خبرة. أي أن الخبرة ليس
سردا لمجموعة تجارب فقط، بل يجب أن يتم فهم تلك التجارب وتحويلها إلى
مخزون معرفي أيضا. لا تتحول التجارب إلى خبرات إلا بفهم التجارب وربطها
ببعض واستخلاص العبر منها. فعامل الصيانة الذي يقوم بإصلاح أجهزة
الحاسوب من نوع ديل مثلا لا يمكن إطلاق خبير إصلاح اجهزة حاسوب. لابد
له أن يقوم بإصلاح اكبر عدد من النوعيات المختلفة والعلامات التجارية
الممكنة ثم يبدأ في معرفة المشكلات الشائعة في الأجهزة والمشكلات
الخاصة بكل جهاز ولماذا تحدث وكيف يمكن تلافيها وكيف يمكن إصلاحها. بعد
كل هذا يمكن أن يطلق عليه اسم خبير صيانة أجهزة حاسوب. إذن فالتجارب هي
مجموعة أنشطة متفرقة، مجموعها الكلي يسمى خبرة.
أما
كيف نكتب كل تلك التجارب والخبرات؟ باختصار شديد، بما أن الخبرة هي
الاسم الجامع للتجارب فتكتب الخبرة في السيرة الذاتية على شكل عنوان
رئيسي وتحتها يتم تفصيل التجارب المتعلقة بها والمثال التالي يوضح ذلك
الأمر.
مثال:
موظف
جديد تتطلب وظيفته أن يكتب كل يوم تقريرا موجها إلى دوائر أخرى داخل أو
خارج الشركة . يقوم الموظف بتجربة كتابة أول تقرير. طبعا أول تقرير
سيكون بمثابة كارثة من حيث المستوى والجودة. في اليوم الثاني يكرر نفس
الكارثة ثم في الثالث يكررها ثم يبدأ ينتبه لخطأ ما في التقرير الأول
فيقوم بإصلاحه. هذه تجربة. ثم يبدأ كل يوم في تجربة طرق جديدة لكتابة
التقارير ووضع اختصارات خاصة به وطرق مختصرة لشرح نقاط محددة، ثم
يستخدم ألوانا محددة للعناوين وألوانا للأرقام، وألوانا للجداول إلخ.
هذه كلها تجارب. بعد مرور سنة مثلا ربما يشعر الموظف بأن التقرير لم
يعد إبداعيا فيطلب من الإدارة أن تلحقه بدورة كتابة تقارير، فيرى طرقا
حديثة في كتابة التقارير وأساليب جذابة ومعبرة لم تخطر
بباله.
تحليل المثال:
كل ما
مر به الموظف كان عبارة عن سلسلة تجارب لا تنتهي في مجال كتابة
التقارير. كانت بالنسبة له تجربة يومية يقوم بها الموظف، تحولت إلى
خبرة حين يصبح كتابة التقرير عملا عاديا بعد أن كان يعد معضلة بالنسبة
له.
لكن..
لا يحق للموظف أن يطلق على نفسه خبيرا في كتابة التقارير ..لماذا؟
سنعرف في المثال الثاني بعد قليل.
ذلك
الموظف ربما يكتب خبرته في السيرة الذاتية كالتالي:
(1) لديه القدرة على كتابة
تقارير
خطأ شائع
(2) خبير في كتابة
التقارير
خطأ فادح
في
الخطأ الأول: الموظف قلل من خبرته بشكل كبير. لأن لديه القدرة على
الكتابة فقط .. لكن.. لكن قارئ السيرة الذاتية سيسأل: هل كتبذلك الموظف
تقارير حقاً؟ هل العبارة توضح مدى خبرته؟ في أي مجال من التقارير هو
خبير؟
لكي
نصحح للموظف ذلك الخطأ الشائع نعيد صياغة سيرته الذاتية
كالتالي:
- لديه قدرة عالية على كتابة التقارير الإدارية بشكل احترافي.
o كتب المئات من
التقارير الإدارية لشركات كثيرة مثل شركة كذا وكذا.
o لديه أسلوب مميز في
كتابة التقارير من حيث الأسلوب واختيار الألوان وطرق العرض المختلفة
بشهادة المدراء والزملاء والزبائن الذين عمل إلى
جانبهم.
o حصل على دورات
متقدمة في كتابة التقارير.
من المهم التفصيل في صياغة الخبرات والتجارب وخاصة الخبرات
التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالوظيفة المراد التقدم إليها. كنت قد تحدثت
في مقال سابق عن ضرورة ربط السيرة الذاتية بالوظيفة .
إذن
يتضح من المثال أنه من الأفضل كتابة الخبرة بشكل واضح في جملة جامعة ثم
نفصل تحتها التجارب التي قام بها العامل. فكلتاهما تعمل على تقوية
الأخرى مما يجعل السيرة الذاتية في النهاية مقنعة.
في
الخطأ الثاني: نرى صيغة المبالغة التي يقع فيها الكثير من الناس.
والمبالغة سببها أن تلك الأمور أو العلوم أو الخبرات مطاطية يمكن
الادعاء فيها بسهولة. لا أحد يستطيع أن يكتب عن نفسه عالم بيولوجي لأن
هذا يمكن دحضه بسؤاله عن الاسم اللاتيني للذبابة النكدة التي تحوم حول
الإنسان في فصل الصيف، أما (خبير كتابة تقارير) فيجب أن نختبره اختبارا
كتابيا في كتابة تقرير كي نحكم عليه. ربما هذا أيضا هو السبب في كثرة
المزيفين في عالم التدريب والاستشارات والإرشاد النفسي وخبراء "التنمية
البشرية"! إلخ.
الشخص
الذي يكتب عن نفسه خبير كتابة تقارير، يجب أن يكون ملما ليس بكتابة نوع
واحد من التقارير، بل بتقارير عديدة. هو شخص كتب تقارير إدارية في
شركات مختلفة ولهيئات حكومية مختلفة. ويجب أن يكون قد كتب تقارير
ختامية، تقارير إنجاز وتقارير مختصرة، تقارير يومية، تقارير دورية
إلخ..
ثانيا: استخدام أفعال الخبرة (الأفعال
التطبيقية)
يخطئ
الكثيرون حين يكتبون سيرهم الذاتية على أنها وصف لتسلسل زمني دون
مراعاة اللغة المستخدمة في الوصف. خبراء كتابة السيرة الذاتية يقولون
أن اللغة المستخدمة في وصف خبرات لديها تأثير على فرص الحصول على وظيفة
مساو للخبرة نفسها إن لم تكن أكثر. فكثير ممن لديهم خبرة كبيرة فشلوا
في الحصول على وظيفة بسبب سوء كتابة السيرة الذاتية. هناك أفعال في
اللغة يؤدي استخدامها إلى إشعار المشغل بأن المتقدم للوظيفة لديه خبرة
حقيقية. مثلا حين ذكرت مسبقا (لديه القدرة على كتابة التقارير). هذه
الجملة ضعيفة لا تحدث الأثر المطلوب. لكن لو كتب (كتب المئات من
التقارير الفنية لشركات كبرى مثل شركة سين وصاد وعين) فهذا يؤكد بما لا
يدع مجالا للشك أنه قد كتاب تقارير فعلا.
سأشرح
الأمر في هذا المثال:
سيرة ذاتية "من وحي
الخيال"
مدير
مندوبي المبيعات لسبعة أفرع لشركة "كذا". مدير حسابات لاثني عشر سلسلة
غذائية في الشرق الأوسط. مسئول عن فريق المبيعات في دائرة المبيعات
لأغراض خاصة. مشرف ومدرب مندوبي المبيعات الجدد. يقدم استشارات للعملاء
في مجالات إدارة المخزون ومراقبة الجودة.
مشاريع خاصة: منسق وراعي الندوة السنوية لمبيعات الصناعة
الغذائية.
الإنجازات: ارتفع حجم المبيعات الإقليمية الشهرية بمعدل %25 خلال فترة
ولايتي بينما، في الوقت نفسه، حافظت على نسبة المبيعات مقارنة بالتكلفة
في إطارها السليم. وتحسنت العلاقات بين الشركة
والعملاء.
ربما
ينظر البعض لهذه السيرة الذاتية على أنها مخيفة وأن هذا الرجل أو
السيدة يستحق الوظيفة بلا منازع. لكن في الشركات الكبرى يرون مثل هذه
السير الذاتية يوميا وتوقفوا عن الشعور بالدهشة منذ وقت طويل.
لماذا؟
دعونا
نحلل السيرة الذاتية. كون أن الرجل مدير لعدة أفرع وعدة حسابات ومشرف
ومستشار لا يعني أن لديه خبرة عملية في المبيعات. ربما هو يعتمد على
الموظفين بشكل كبير خاصة إذا كانت الشركة مملوكة للعائلة. أو ربما كل
هذه الشركات هي عبارة عن (دكاكين) أي محلات صغيرة تتكون من موظف أو
موظفين اثنين فقط لكن صيغة الحديث جعلت القارئ يشعر أنه يدير تقريبا
نصف موظفي الشرق الأوسط. أما الانجازات فهي تتحدث عن انجازات على مستوى
البيع العام مما يشير ربما لإدارة جيدة وليس لمهارات مبيعات جيدة. أو
بكل بساطة، دعنا نسأل هذا السؤال المحرج .. هل الرجل مدير أم بائع
بالضبط؟ لم أفهم حقيقة!
لكن
يمكن إعادة صياغة تلك السيرة الذاتية بهذا الشكل كي تصبح مقنعة ويسيل
لها لعاب موظفي الموارد البشرية في الشركات الكبرى.
قمت
بإدارة مندوبي المبيعات في سبع أفرع للشركة. أشرفت على حسابات اثني عشر
سلسلة غذائية في الشرق الأوسط. حاليا أنا المسئول المباشر عن توجيه
فريق المبيعات في دائرة المبيعات لأغراض خاصة. أُشرف وأدير مندوبي
المبيعات الجدد في الشركة. وأقدم الاستشارات للعملاء في مجالات إدارة
المخزون ومراقبة الجودة. نسقت ورعيت الندوة السنوية لمبيعات الصناعة
الغذائية. عملت على زيادة حجم المبيعات الشهرية الإقليمية بنسبة 25 في
المئة، وساعدت على تحسين العلاقات بين العملاء والشركة خلال فترة
ولايتي.
لاحظ
الفرق بين الصياغتين. في الأولى ينتاب قارئ السيرة الذاتية شعور بأن
مقدم تلك السيرة لم يغمس يديه في غمار العمل، أو كأن الرجل يتكلم عن
خبرته من الطابق العاشر بينما نحن نستمع له في الطابق الأول. لا أدري
إن وصلت فكرتي هذه لكني هكذا أتخيله. كأنه يتحدث عن شخص آخر ليس
هو.
أما
في الصياغة الثانية، فقد شعرت أن مقدم السيرة الذاتية يتحدث بقوة وثقة
سيما وأنه يستخدم صيغة الملكية وأسلوب المتكلم وليس أسلوب
الغائب.
ثالثا: الجهل بخبراتنا.
وهذه
مشكلة كبيرة أيضا. نحن نتجاهل خبراتنا كثيرا .. أحيانا نسهو عنها ..
أحيانا نخجل منها .. أحيانا لا نعلم أنها خبرة .. أحيانا نستصغرها. لكن
ولكي أنبهك إلى تلك المشكلة (جهل أو استصغار خبراتك) دعني أذكرك بنقاط
بسيطة.. لا تنسى أنك لو عملت في مطعم، فهذا يعني أنك عملت في فريق عمل
لوقت طويل وكان الفريق ناجحا (وإلا لفشل المطعم). لو عملت مدرسا فهذا
يعني أنك ممارس كبير لمهارة إدارة الوقت، فقد كان يجب أن تنهي عملك في
الوقت المناسب وتبدأه في الوقت المناسب وتحضر للدرس في الوقت المناسب
.. ماذا تريد أكثر من إدارة الوقت! السكرتير البسيط الذي يعمل في إحدى
الدوائر الحكومية والذي يحبه جميع الموظفون لدماثة اخلاقه وكلامه
المهذب، ينسى أن يكتب في السيرة الذاتية أن لديه قدرة كبيرة على
التواصل الفعال والتعامل مع شخصيات مختلفة وإدارة ضغوط العمل.. ولا كيف
سيحبه الموظفون وكيف يتحمل هو طلباتهم كلها بدون أي مشكلات! إذن نحن
أحيانا لا ننتبه للخبرات التي لدينا. خاصة الخبرات التي لا نراها بشكل
مباشر في الوظيفة مثل إدارة الوقت أو إدارة فرق العمل أو التواصل
الفعال.
في
الختام، سأسوق مثالا رأيته قبل عدة سنوات حول تجاهل العامل لخبراته.
حيث قدم اثنان من المهندسين سيرة ذاتية لوظيفة هندسية مرموقة في مشروع
ضخم. المهندس الأول كانت خبرته سبع سنوات في حين أن المهندس الثاني
خبرته أربع سنوات في نفس المجال. المهندس الأول كتب خبراته بشكل عام
(مهندس مدني خريج سنة كذا من جامعة كذا إلخ...). المهندس الثاني كتب
مثله لكنه أضاف (وعملت ثلاث سنوات في استخدام جهاز المنظار الهندسي في
المساحة واستخدمت برنامج الاوتوكاد في رسم مضخات المياه). طبعا أي
مهندس مدني أو طالب هندسة سنة ثانية يعرف كيفية استخدام المنظار
الهندسي، كما أن برنامج الأوتوكاد للرسم الهندسي أصبح للمهندس مثل
الويندوز للحاسوب. الشركة اختارت المهندس الثاني!
إذا
لم تكن قد استنتجت السبب، دعني أوضح لك أن الشركة حين قرأت السيرة
الذاتية للمهندس الثاني بدأت تفكر هل المهندس الأول استخدم فعلا
المنظار الهندسي وهل رسم مضخات مياه على الأوتوكاد؟ لا يعني أنك تستخدم
الاوتوكاد أنك قد رسمت مضخات مياه بواسطته. لذلك فضلت الشركة عدم
المخاطرة واختيار الشخص الذي خاطب احتياجهم الفعلي بشكل مباشر. طبعا لا
ننسى أن الشركة كانت تبحث عن مهندس مدني يجيد استخدام المنظار الهندسي
ويجيد أيضا رسم مضخات المياه.
سيكون
لنا موعد قادم بإذن الله للحديث أكثر عن السيرة
الذاتية.
مع
تمنياتي لكم بالتوفيق،،،
ملاحظة: حاليا معظم السير الذاتية في الشركات في العالم
العربي تكتب باللغة الإنجليزية. ولهذا ستجد المراجع الهائلة في ذلك
المجال. ربما أكتب عنها باللغة الإنجليزية مستقبلا إذا احتاج الأمر
ذلك.
وحتى نلتقي،،،
مهيب عبد أبو القمبز
باحث دكتوراة في إدارة المشاريع
مدرب دولي معتمد
مانشستر – المملكة المتحدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق