الاثنين، 10 أكتوبر 2022

الإمام الفائض عن الحاجة أو: السيرة والترقيع

د. مروان الغفوري 

"علي" حكاية فائضة عن الحاجة. علي الحقيقي شخص هامشي في الحرب والسلم والثقافة، أما علي الأسطوري، النسخة الوهمية من الرجل، فقد ملأ الدنيا ضجيجا. كل حكاية عن علي هي قصة خرافة، والخرافة يراد لها أن تملأ فراغا، ولكن ليس داخل التاريخ العربي- الإسلامي حيث ملأت الكتب النهر، وكان رحالة مسلم يتنقل بمكتبة من ١١٧ ألف كتاب على ظهور الجمال!


سيحاول علي شريعتي في "محن علي الثلاث" أن يشرح معنى استحقاق علي لدرجة إمام: إنه النموذج الأعلى الذي كانت البشرية على طول تاريخها تشعر بالحاجة إليه. سرعان ما سيناقض نفسه ويقدم دليلا عمليا على أن العرب استغنت عن "الإمام"، ولم تجد من حاجة إليه. شريعتي، المستنير، سيقول إن عليا ربط نفسه بالسلاسل (مجازا) ولزم منزله ربع قرن تاركا حقه في قبضة مغتصبيه كي لا يفتن أمة محمد. يتجاهل شريعتي حقيقة ما جرى للأمة العربية وعلي مكبل في السلاسل بين نسائه وجواريه: وضع العرب أقدامهم على ثلث العالم القديم. وعندما فك سلاسله وخرج من منزله قاتل العرب بعضهم بعضا. في الكتاب نفسه سيعترف شريعتي: كانت محنة علي أن العرب لا ترى له ذلك الحق. أن يفهم العرب الإسلام على ذلك النحو، بوصفه تحريرا ومساواة وإيمان بلا قيود، لهي فضيلة تاريخية للآباء المؤسسين للحضارة العربية، وقفزة عالية إلى الأمام تجعل من فهم علي للإسلام، مقارنة برؤيتهم، رجعية و"شركا". 

النهاية المأساوية لعلي في الكوفة، ٤٠ هجرية، دفعت الناس للتعاطف معه وذويه، فانضم إلى ترسانته الدعائية التي أسسها في الكوفة (دار ضرب الحديث، كما يسميها مالك) حشد جديد من أمصار عدة، سيملؤون كتب المغازي والسير بخرافات البطل والفقيه والفدائي. سيستمر تزوير التاريخ وسيفاجئنا الشيخ جعفر العاملي في القرن الواحد والعشرين بمؤلف من ٥٣ جزءا بعنوان "الصحيح من سيرة الإمام علي"! تتوالد الأكذوبة الأعظم في التاريخ وتستقل بنفسها كدين متكامل (نبي، رسالة، شهادة، فداء، كتاب، أتباع، ومنهاج)، وستعززها النهاية التراجيدية للحسين في كربلاء، وهكذا ستتوفر للدين الجديد عناصره الجوهرية وفي مقدمتها الفداء والاستشهاد، كما يذهب جورج طرابيشي في تعليقه على "موسى والتوحيد" لفرويد. 

غير أن هذا الدين المنشق سيبتلع الأديان كلها، وليس الإسلام وحسب، وسيصبح نهاية للتاريخ (راجعوا مؤلفات الكليني، المجلسي، العاملي). رغم حجمها الضخم إلا أن الخرافة، التي ابتلعت كل شيء، عجزت عن أن تكون مكتفية بذاتها كدين، وأصرت على التحليق داخل أجواء الإسلام لتخوض معه صراعا مستداما على مستوى الأصول التأسيسية والبنية الفلسفية.

 بقي علي، لا التشيع، يمثل أحد أهم الاختراقات المدمرة للخطاب الأخلاقي والعقلي للإسلام، تحديدا على صعيد العدل والمساواة وحرية الفرد، وكان "دين علي" قد برز مبكرا على مستوى الاصطلاح منذ القرن الأول الهجري، كما يلاحظ أمير معزي المتخصص في تاريخ التشيع. 

لسنا بصدد نقاش التشيع كعقيدة، بل لنتحدث عن قصة زائفة في التاريخ العربي اسمها: علي كرم الله وجهه. ولأنها كذلك فقد استدعى الأمر إسنادها بكل ذلك النتاج الضخم من الحكايا التي تفتقر إلى أبسط مفاهيم الرواية والدراية، أي لما هو علم في مقاييس ذلك الزمن. 

طرحت علينا كتب المدرسة، في طفولتنا، هذا السؤال: لماذا لم يلتق علي وخالد في معركة؟ ولقنتنا الإجابة:لأنهما لو التقيا لقتل علي خالدا، ولكن الله كان يدخر خالدا لما هو أعظم. 

ولا ندري، حتى الآن، لماذا أدخر الله خالدا ولم يدخر عليا!

لنعد إلى لحظتين في مدينة النبي، ولنأخذ صورتين جويتين لها. الأولى: استقبال المدينة لخبر وفاة خالد بن الوليد في الشام (٢١ هجرية). تصدم المدينة، ويعلو نواح النسوة ويهرعن إلى الشوارع، ويخبر عمر، خصمه منذ الطفولة، بذلك فيقول "ما عليهن أن يرقن دموعهن على أبي سليمان" (البخاري، التاريخ الكبير) . لتكتمل الصورة سنذهب إلى البداية والنهاية (ج. ١٠) لنسمع وصفا موجزا وعبقريا لذلك المحارب العربي القديم: لم يقهر في جاهلية ولا إسلام. هكذا يكثف مؤرخ جسور سيرة رجل غني عن الخرافة والتضليل. يمكننا وضع حدود الحقيقة والخرافة على هذا النحو: يقود خالد زهاء مائة معركة، ويصنع علي لنفسه مجدا من صراعه مع بطل وهمي في ظلام ليلة الخندق! 

الصورة الثانية: مقتل علي. تتلقى المدينة النبأ بتوجس، لا نساء في الشوارع، لا نواح، ولا إحساس بالفقد. فالرجل الذي سلب المدينة مركزها، وذهب مع المرتزقة وقطاع الطرق ليساكنهم على تخوم خراسان كان بالنسبة لمدينة الرسول قد مات منذ زمن. سيحدث شيء رهيب بعد زهاء عشرة أعوام، وستخرج المدينة على بكرة أبيها في جنازة الحسن بن علي، ذلك الذي ترك أحلام أبيه في العراق وعاد إلى المدينة تائبا ومهزوما. عن تلك الجنازة المهيبة، جنازة الإبن التائب، سيروي سبط الجوزي في مرآة الزمان/ج٧ (لو طرحت إبرة من السماء ما وقعت إلا على رأس إنسان).

كل قصة عن علي هي قصة خرافة، وقد برزت أعظم الخرافات في حياته وتحت سمعه وبصره. تحدثنا سابقا عن عزلة الرجل منذ أن قرر أن يبني ملكه على أكتاف قطاع الطرق، ويستخدم حتى النصارى في قتال عائشة، كما يدون اليعقوبي في تاريخه (من مؤرخي القرن الثالث الهجري). يمكن فهم خرافة علي بوصفها استراتيجية وجودية بالنسبة للرجل، ومحاولة لخلق فضاء قوة ناعمة خارج حدود مملكته في العراق. فضلا عن رغبة الرجل في تشكيل درع واق ضد المثقفين والشعراء الذين أمسكوا بتلابيبه ورفضوا شرعيته المبنية على الصدمة والرعب. لنستمع إلى واحدة من أهم شاعرات القرن الأول الهجري، ليلى الأخيلية. فبعد أن توجعت لمقتل الحاكم راحت تخاطب معاوية قائلة:
فانهض معاوي نهضة، تشفي بها الداء الدفينا.
 أنت الذي من بعده، ندعو أمير المؤمنينا. 

ويساهم حسان بن ثابت، بما له من وزن أخلاقي وفني، في مساءلة علي، يقول:
فقد رضينا بأهل الشام نافرة،
 وبالأمير وبالإخوان إخوانا
يا ليت شعري، وليت الطير تخبرني، 
ما كان شأن علي وابن عفانا!

واجه الشعراء، وهم القوة الضاربة آنذاك، عليا بقصائدهم التي تكيل المديح للخليفة الراحل وتشير ضمنا أو علانية إلى القاتل. كما ساهمت النساء المثقفات في ذلك الموقف الاحتجاجي الواسع. سيتذكر علي جيدا، وهو تائه في الكوفة بين المرتزقة وقطاع الطرق، موقف إنتلجنسيا المدينة ومكة، وسيرد على طريقته (ضرب الحديث وتأليف القصص). لنسم بعض شعراء تلك الطبقة الثقافية ممن اقتربوا شعريا من الحدث الرهيب، اغتيال الحاكم: كعب بن مالك، زينب بنت العوام، أيمن بن خزيمة، الوليد بن عقبة، أيمن بن فاتك الأسدي، وآخرون (الكامل في التاريخ، تاريخ الأمم والملوك، البداية والنهاية).
كما يرتجز الوليد بن عقبه قصيدته الشهيرة، وسيقول فيها:
 بني هاشم كيف التعاقد بيننا، 
وعند علي سيفه وجرائبه.

سيتهم عليا بسلب عثمان بن عفان، بالمعنى المجازي والعملي، ويقول مخاطبا بني هاشم:
 سواء علينا قاتلوه وسالبه!

والوليد بن عقبة هذا هو أخ الخليفة عثمان لأمه، وكان واليه على الكوفة. وهو هنا يتهم بني هاشم بتدبير مقتل أخيه، ليصلوا إلى الحكم:
همو قتلوه كي يكونوا مكانه
كما غدرت يوما بكسرى مرازبه!

 الحقيقة أن تلك الأرجوزات والقصائد لم تجد من يردها نثرا ولا قافية، لا من الطالبيين ولا سواهم، وبقيت شهادة حية لها الكلمة العليا حول ما جرى. كما لو أنها قد وافقت انطباعا عاما عن دور (مفترض أو حقيقي) لعلي في الإطاحة بالنظام وقتل رأسه.

 هكذا ستأتي قرارات علي لتقول الشيء الكثير، فهو لم يتلكأ عن محاكمة قتلة عثمان وحسب، بل صاروا جيشه الضارب، جيشه الوحيد. سرعان ما أطاح بكل ولاة عثمان من البلدان، من مصر إلى اليمن، كأنه كان يهيل تراب التهمة على رأسه ويؤكدها. لقد عمل على تصفية نظام سلفه قبل أن تجف دماؤه. وكما سيفعل مع كل قتلاه (سنأتي على اغتيال الأشتر فيما بعد) فإن عليا سيبكي عثمان وسيبشر قاتليه بالنار. استفاد علي من مقتل كل خصومه، وفي كل مرة كان يخرج رابحا وأخلاقيا، يؤكد مملكته ويبشر قتلة أعدائه بالنار! كانوا يذهبون إلى النار ويربح هو الدنيا والآخرة. تلك السيرة، بحذافيرها، سيستكملها أحفاده داخل تلك المنظومة الأخلاقية المتفردة التي سنسميها: علي كرم الله وجهه.

لنعد إلى أولى قرارات علي بن طالب: تعيين بني هاشم ولاة على اليمن، الحجاز، والعراق. كما سيقيل والي عثمان على مصر وينصب ربيبه وابن زوجته محمد بن أبي بكر، الرجل الذي اقتحم دار عثمان وطعنه في عنقه (مؤرخون يخفضون درجة جريمته إلى جر الخليفة من لحيته وهو يقتل). أقدم علي على تلك القرارات قبل أن يستقر له من أمر الدولة شيء.

 كانت رؤيته للدولة أنها مؤسسة هاشمية، كما سنعرف، وكان ذلك مبلغه من فهم الإسلام، أو رؤيته "النيبوتية Nepotism" للحكم: عائلية السلطة من أجل نظام مستقر ومستدام. أو كما سيقول مصطفى ناجي، الكاتب اليمني: يرون الإسلام على هيئة شركة لها مؤسسون لا يمكن المساس بحقوقهم، وعلي هو المؤسس الثاني. 

 تلك القرارات الخطرة، عائلية الدولة الجديدة، اتخذت دون مشاورة مع المتمردين (الثوار) بقيادة الأشتر. كان الأشتر يرى إن إنجازه المتمثل في تصفية عثمان ونظامه يستوجب اقتسام السلطة مع علي، أي بين الفارس والمفكر، فلولاه لما وصل الأول إلى مبتغاه. غضب الأشتر، وهو يرى الهاشميين يتسيدون البلدان، واحتج أمام رجاله قائلا "علام قتلنا الشيخ إذن" يقصد عثمان ( بحار الأنوار، ج. ٤٢). بلغت مقولته عليا فاستدعاه، وراح يلاطفه قائلا إنما وليت أبناء العباس لا أولادي، فقد سمعته يطلب الإمارة من رسول الله مرارا! 
 كان علي، الجائع إلى السلطة، يدرك ورطته المتعاظمة. لقد تفرق عنه الناس (ابن تيمية، منهاج السنة، ج. ٤) وصار منقسما بين عائلته الظامئة إلى النفوذ والثروة وبين الثوار الذين يرون لهم حقا أصيلا في بنية الدولة الجديدة. بين خوفه من حلفائه واستسلامه لطموحات أهله صار "رجل بلا رأي"، كما يصفه قيس بن سعد عامله على مصر (ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم).

 في نهج البلاغة ستختلق قصة عن عدالة الرجل: أحمى حديدة وأوجع بها شقيقه "عقيل" حين طلب منه نفوذا وسلطانا، معلما إياه درسا حول نزاهة الحاكم! ولا ندري لماذا تلقى عقيل لوحده الدرس بينما ذهب باقي أسرته ليحكموا البلاد من اليمن إلى العراق، باعتراف نهج البلاغة نفسه. إن ترقيع سيرة الرجل مهمة أصعب من خلق تلك السيرة، والمهمتان فشلتا في غمر الحقيقة بالماء إلى الأبد، إذ سرعان مما تتصادمان وتبينان تفاهتهما: السيرة والترقيع. 

لنذهب بعيدا، إلى العام ٣٧ للهجرة: يحمل الأشتر رسالة من علي إلى أهل مصر يكلب منهم الامتثال لواليه (الذي لا يخاف). لا ندري لماذا أشار علي إلى تلك الميزة في مبعوثه في حين كان بمقدوره أن يحدثهم عن العدل والنظام. ربما كان يفصح عن مخاوفه التي لا تبارحه حين يفكر بالرجل. وبجوار تلك الرسالة حمل خطابا سيطلق عليه "عهد علي إلى ابن الأشتر".

شيئا آخر قاله في رسالته: إن مالك ابن الأشتر لي كما كنت أنا لرسول الله. هذا التعالق بين علي والأشتر، رغم اعتراف الأخير بقتل عثمان، يقول أكثر مما نريد قوله. كان الرجلان رفيقي سلاح وسيلاحظ الأشتر إصرار علي على احتكار الدولة في ذويه، ويشاهد بأم عينه كيف أرسل علي غلاما حدثا لا يتجاوز السادسة والعشرين (ربيبه محمد بن أبي بكر) ليجعله واليا على مصر. تؤكد مصادر تاريخية عديدة أن الرجلين ضاقا ذرعا ببعضهما، وأن عليا أسر إلى قريبين منه أنه يتخوف من الرجل ومن معه. كان قد عبر عن ذلك الخوف أمام الوسطاء في المدينة قبل خروجه إلى العراق، قال إنهم قبائل وعسكر وأن لهم مددا وأعوان (البداية والنهاية، ج. ١٠). يبادله الأشتر الريبة نفسها، وقد لاحظ أن عليا ينأى عنه ويخلق لنفسه منعة (جدارا هاشميا). تذاكي علي أمام الوسطاء، قبله هجرته إلى العراق، وتكراره القول إنه سيعاقب المتمردين حين تستتب له الأمور لم يغب عن ذاكرة الأشتر وربعه. تتصاعد حرب باردة بين الرجلين ويقرر علي فجأة منح الأشتر حكم مصر. سيقال إن أهل مصر تململوا من حكم ابن أبي بكر بسبب طيشه وقلة خبرته، وسيكون ذلك التبرير مقنعا للأشتر الذي توجس أول الأمر. كان يفكر كقاطع طريق، وهو يعرف حيل الحلفاء ومكرهم. أما علي فيسر إلى مقربين منه أنه أراد أن يبدد شمل المتمردين في الأمصار كي يستخلص الدولة لنفسه وذويه، وأن يعيد صياغتها (هوشمتها) من الداخل بلا ضغط. يمسك ابن الأشتر بالعهد، خمس صفحات من الوصايا، رطانة لغوية ينتمي كودها اللغوي إلى القرن الخامس الهجري. أريد للنص أن يكون فتحا علويا في السياسة والأخلاق، يعادل في حمولته السياسية والأخلاقية خرافة أخرى اسمها المبيت في فراش النبي ليلة الهجرة (وسنأتي على هذه الحكاية فيما بعد).

ذلك العهد المهيب، الذي ارتقى ليكون "أخ القرآن"، لا وجود له في كل كتب السير، بالإجماع، ويظهر لأول مرة في كتاب ألفه الشريف الرضي سنة ٤٠٠ للهجرة، أي بعد مقتل علي بثلاثة قرون ونصف!

 ليس للنص أي إسناد، منقطع كليا عن تاريخه. الأمر لا ينتهي هنا، فثمة أصل وحيد لذلك النص الذي يساق علي من خلاله بوصفه السياسي الأكثر حكمة في التاريخ. ففي كتاب السير والملوك للطبري، الجزء ١١، نجد العهد الذي كتبه والي خراسان طاهر حسين (عميد الطاهرية) إلى ابنه عبدالله حين ولاه المأمون على الرقة وما حولها مطلع القرن الثالث الهجري. كان طاهر حسين رجلا حكيما ومثقفا سياسيا، كتب رؤيته الأخلاقية والسياسية في "عهد" من عشرين صفحة، وهو من أفضل ما كتبه العرب في مسائل الإدارة والدولة. وفيما يبدو فقد سطى الشريف الرضي (وهو ابن نقيب الطالبيين ببغداد) على النص وراح يحاكيها في رطانة لغوية يكشف كودها اللغوي والدلالي عن زمن كتابتها. نص طويل، من رجل شهير له مريدوه، إلى قائد شهير له مشايعوه، يختفي لأربعة قرون! ليس ذلك العهد وحسب بل ٢٤١ خطبة لعلي، ومواعظ ورسائل عديدة، كل ذلك الحشد من النصوص يتخلق فجأة من العدم دفعة واحدة مطلع القرن الخامس. لنستمع إلى الذهبي ليخبرنا عن نهج البلاغة، كتاب علي وحكمته وفلسفته: كتاب مكذوب. أما ابن تيمية فيتحدى أن يأتيه أحد بمصدر واحد لتلك النصوص في كل مؤلفات المؤرخين والمحدثين (عدا السرقات المباشرة- وفقا لابن تيمية- من البيان والتبيين للجاحظ). 

لنعد إلى ابن الأشتر ونتتبعه في طريقه إلى مصر: 

 كأن العهد الذي اخترعه الشريف الرضي، ناسبا إياه إلى علي، محاولة متأخرة من مثقف هاشمي لصرف الأنظار عن السياق التاريخي الذي أحاط بموت الأشتر.

 كان علي يدرك أنه يتعامل مع محارب قاد الاضطرابات من العراق حتى الحجاز، معه مدد وأعوان، وقد صنعت له الجمل وصفين صورة البطل الذي لا يقهر، والعبقري الذي شق جيش معاوية وكاد يفتك به لولا الخديعة. تلك الصورة اللامعة، فضلا عن موهبة خطابية ولغوية (الذهبي، سير أعلام النبلاء)، جعلت الأشتر بديلا محتملا لحاكم في الستين من عمره تصفه كتب السير بالبدين، الأصلع كالطاسة، ناتئ الجبهة، عظيم البطن، الأعمش، قليل الأسنان، وثقيل الحركة. 

وقبل أن يتوغل في أراضي مصر يفقد الأشتر حياته في ظروف غامضة، وتقيد العملية ضد مجهول. سيقال إنه أكل عسلا واختنق، وستحيل بعض المرويات موته إلى معاوية، وأخرى إلى غلام لعثمان. وسنقرأ عند الطبري في تاريخه عن عملاء دفعهم معاوية لاغتيال الرجل قبل أن يصل مصر. كل تلك الروايات لا تستقيم داخل سياق تاريخي معقول، فكيف يعلم معاوية بتولية الأشتر، ويتتبع طريقه حتى حدود مصر، ويتمكن من اختراق موكبه واغتياله. لنأخذ كل هذا الهراء التاريخي داخل صورة ذلك الزمان: أمصار متباعدة، لا وسائل اتصال، وأجواء حرب وشك. 

 يموت خصم جديد لعلي، أو يقتل، فيبكي فراقه قائلا "لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر" (نهج البلاغة). حدث قبل ذلك أن بشر قاتل الزبير بالنار، وتلك سابقة في الإسلام أن يدفع القائد جنوده للقتال ثم يبشرهم بالجحيم. كان علي يفعل الشيء ونقيضه، ويستعين بترزية أحاديث وقصاصين جعلوه متساميا فوق البشر، حتى إن ابن كثير وهو يسرد مقتل عثمان ختم القصة قائلا "وكان قدرا مقدورا" لئلا ينزلق إلى تساؤلات حول دور علي قد تضعه في درجة المنافق "لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"، قال علي عن نفسه. وهو تحوير مذهل لوصف قاله النبي في الأنصار، كما في صحيح مسلم. 

 بعد عام سيفتك علي بالآلاف من رجاله السابقين في معركة النهروان ممن اعترضوا على إدارته العسكرية والسياسية، ورأوا أن قدراته الفقهية أقل من أن تكون موضع احترام. سيسميهم الخوارج، وسيحتمي بالقدرة المعرفية لابن عباس، الذي سيدير الجدل معهم بينما سيلزم الحاكم منزله كعادته، في انتظار ما تجود به قدرة ابن العم. سيندفع رجاله، كالعادة، لتفصيل أحاديث تنال من خصومه بالصفة، وأحيانا بالاسم، حتى ليقال إنهم مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية. 

ومن المثير، كما بينا سابقا، أن ابنه الحسن سيرسل إلى أولئك المارقين يدعوهم للقتال إلى جواره، وبعد نقاش سيوافقون ويلتحقون بجيش "الحسن المجتبى".

 على أن تلك اللعبة، لعبة الإرهاب والدين والخديعة، قضت في نهاية الأمر على أول دولة علوية في التاريخ.

لا يمكن محو اليمني

د. مروان الغفوري

منتصف نوڤمبر القادم سيبلغ سكان الأرض ٨ مليار!  ومع نهاية القرن الحالي سيكون ثلث العالم من السود (تقرير أممي). شكل الطاقة آخذ في التغير، السوق انتقل شرقا، وفي طريقه الآن إلى إعادة توزيع نفسه أفقيا مع بروز قوى جديدة.

خلال أقل من خمس سنوات ستتجاوز الهند الصين بالنسبة لعدد السكان، وستخلق الواقعية الديموغرافية الجديدة واقعا جيوسياسيا جديدا (الهند أمة ديموقراطية، بخلاف الصين). كورونا وأوكرانيا أحدثتا تغييرا جوهريا في نظرنا للعولمة، وفي الفكرة نفسها.

 الازدحام الرهيب في العالم، سباق التسلح الجديد، وانشطار العالم من جديد إلى معسكرين ديموقراطي وأوتوقراطي، كما يبشر بايدن، جاء على حساب العولمة والحداثة. داخل هذه التبدلات بدا الشر الإيراني أقل من تصور الرجل الأبيض السابق عنه، ما يطرح احتمالا برفع الحصار عن إيران وتركها تركض وراء مشروعها الرسولي. العالم الإيراني يحيط بالسعودية من كل جانب، وحين تصبح تلك الدولة ذات أهمية أقل بالنسبة لسوق الطاقة فإن ابتلاعها من قبل عالم إيران سيكون ممكنا ومتفهما.

 في العام ١٨٠٢ عاد السعوديون، في التأسيس الثاني، بحمولة خمسة آلاف بعير من كنوز حوزات جنوب العراق. وقد يستدير التاريخ وتخرج الجمال، وئيدة، من الحجاز إلى عالم إيران شمالا وجنوبا وشرقا.

الغطرسة السعودية - الإماراتية لا تأخذ التاريخ في الحسبان، ولا حتى المستقبل. في مسرحية "جبال الصوان" للرحابنة يسيطر الطاغية على الجبل ويقتل حاكمه، ثم يفرض سلطانه الرهيب معتقدا أن هيمنته على الجبل صارت أبدية. السلاح لوحده لا يكفي ما دام أهل الجبل يعتقدون أنه يخصهم، إيمانهم جعلهم دائما في انتظار المخلص. كانوا يغنون، ليتذكروا وليبقوا حزنهم حيا وحقدهم مزدهرا:

 

مين ما كان بيتمرجل علينا

مين ما كان بيتنمرد علينا

بدنا نعرف شو سوينا؟

 

بعد عقد من الزمن تخرج ابنة شيخ الجبل القتيل، فيروز. تغني وتأخذ الناس خلف ندائها وأغانيها، وتواجه المحتل المدجج بالبارود. تقتل في المكان الذي قتل فيه والدها، فيكون دمها على دم أبيها النار التي دحرت المحتل وأخرجته من الأرض.

كل شيء آيل للتبدل، ولا يمكنك أن تلغي التاريخ بشاص في عدن، أو تزيفه بشاصين في صنعاء. اليمن بلاد تخص أجدادنا، ورثناها منهم، وستعود لأبنائنا ما داموا يعتقدون أنها لهم، مهما "تمرجل" عليهم مين ما كان. فقد تأتي فتاة بعد سنين تغني، فقط تغني وتخلق ثورة، وتخلق تحريرا، وتعيد الجبل لأهل الجبل

لا بد للصورة أن تكتمل: التشطير، الإمامة، المنفى، وتلاشي الجمهورية اليمنية بصورة نهائية. علقنا في أنصاف الحقائق، الحقيقة الكاملة هي باب الخروج، وهي وقود الغد ونهره

لسنا أول أمة تفككت. فبعد حرب الثلاثين عاما تشظت ألمانيا إلى ٣٠٠ دولة. شيء واحد بقي في مكانه، لم يستطع التاريخ محوه ولا إخراجه من المعادلة: الألماني.

لتحتل إيران شمالنا، ولتنصب عليا حاكما (أخيرا كسب معركة بعد ١٤ قرنا من التيه).

 وليحكم  الخليجيون جنوبنا، ليمضوا في مشروعهم فالطريق سالك. 

انتهى الحاضر، وجاء الدور على التاريخ.

وكما تعلمنا من تاريخ أمم وشعوب أخرى:

يمكن إخضاع اليمن، هزيمتها، تفكيكها، تغيير ملامحها، ضغطها، إسدال الستار عليها. ولا يمكن محو اليمني، لا كمعنى ولا كفاعل فرد داخل التاريخ.  اليمني ليس صفة بل تاريخا، واليمن ليست شأنا في السياسة بل دالة في التاريخ. لا يمكنك محوها إلا باقتلاع التاريخ نفسه ومحو كتبه.

إمبراطوريات كثيرة جرت عليها الأيام فأبلغت مستعمراتها بالحقيقة المرة: تدبروا أمركم، وسنتدبر أمرنا. وكر التاريخ، وخرج المهزومون من القبو.

 فقبل ٤٠ سنة وقف أزعر في عدن وألقى خطابا فوق سفينة "سوڤيتية" قائلا إن بلاده جزء.من تلك الإمبراطورية التي لا تعرف الهزيمة. لم يعطه التاريخ سوى أعوام قليلة حتى صار هو وروسيا والسفينة جزء من الماضي.

كل شيء قابل للتبدل، وبأسرع مما نظن.

فلنسحب كرسيا، ولنشاهد.

نخبكم يا الربع.

على طريقة أبي جعفر المنصور

على طريقة أبي جعفر المنصور مع أبي مسلم الخرساني: من المحتمل أن عليا قد اغتال الأشتر!

لنذهب بعيدا، إلى العام 37/38 للهجرة: يحمل الأشتر رسالة من علي إلى أهل مصر يطلب منهم الامتثال لواليه (الذي لا يخاف). لا ندري لماذا أشار علي إلى تلك الميزة في مبعوثه في حين كان بمقدوره أن يحدثهم عن العدل والنظام. ربما كان يفصح عن مخاوفه التي لا تبارحه حين يفكر بالرجل. وبجوار تلك الرسالة حمل خطابا سيطلق عليه "عهد علي إلى مالك الأشتر".

شيئا آخر قاله في رسالته: إن مالك الأشتر لي كما كنت أنا لرسول الله. هذا التعالق بين علي والأشتر، رغم اعتراف الأخير بقتل عثمان، يقول أكثر مما نريد قوله. كان الرجلان رفيقي سلاح وسيلاحظ الأشتر إصرار علي على احتكار الدولة في ذويه، ويشاهد بأم عينه كيف أرسل علي غلاما حدثا لا يتجاوز السادسة والعشرين (ربيبه محمد بن أبي بكر) ليجعله واليا على مصر. تؤكد مصادر تاريخية عديدة أن الرجلين ضاقا ذرعا ببعضهما، وأن عليا أسر إلى قريبين منه أنه يتخوف من الرجل ومن معه. كان قد عبر عن ذلك الخوف أمام الوسطاء في المدينة قبل خروجه إلى العراق، قال إنهم قبائل وعسكر وأن لهم مددا وأعوان (البداية والنهاية، ج. ١٠). يبادله الأشتر الريبة نفسها، وقد لاحظ أن عليا ينأى عنه ويخلق لنفسه منعة (جدارا هاشميا). تذاكي علي أمام الوسطاء، قبل هجرته إلى العراق، وتكراره القول إنه سيعاقب المتمردين حين تستتب له الأمور لم يغب عن ذاكرة الأشتر وربعه. تتصاعد حرب باردة بين الرجلين ويقرر علي فجأة منح الأشتر حكم مصر. سيقال إن أهل مصر تململوا من حكم ابن أبي بكر بسبب طيشه وقلة خبرته، وسيكون ذلك التبرير مقنعا للأشتر الذي توجس أول الأمر. كان يفكر كقاطع طريق، وهو يعرف حيل الحلفاء ومكرهم. أما علي فيسر إلى مقربين منه أنه أراد أن يبدد شمل المتمردين في الأمصار كي يستخلص الدولة لنفسه وذويه، وأن يعيد صياغتها (هوشمتها) من الداخل بلا ضغط. 

عهد علي إلى الأشتر: خمس صفحات من الوصايا، رطانة لغوية ينتمي كودها اللغوي إلى القرن الخامس الهجري. أريد للنص أن يكون فتحا علويا في السياسة والأخلاق، يعادل في حمولته السياسية والأخلاقية خرافة أخرى اسمها المبيت في فراش النبي ليلة الهجرة (وسنأتي على هذه الحكاية فيما بعد).

ذلك العهد المهيب، الذي ارتقى ليكون "أخ القرآن"، لا وجود له في كل كتب السير، بالإجماع، ويظهر لأول مرة في كتاب ألفه الشريف الرضي سنة ٤٠٠ للهجرة، أي بعد مقتل علي بثلاثة قرون ونصف!

 ليس للنص أي إسناد، منقطع كليا عن تاريخه. الأمر لا ينتهي هنا، فثمة أصل وحيد لذلك النص الذي يساق علي من خلاله بوصفه السياسي الأكثر حكمة في التاريخ. ففي كتاب السير والملوك للطبري، الجزء ١١، نجد العهد الذي كتبه والي خراسان طاهر حسين (عميد الطاهرية) إلى ابنه عبدالله حين ولاه المأمون على الرقة وما حولها مطلع القرن الثالث الهجري. كان طاهر حسين رجلا حكيما ومثقفا سياسيا، كتب رؤيته الأخلاقية والسياسية في "عهد" من عشرين صفحة، وهو من أفضل ما كتبه العرب في مسائل الإدارة والدولة. وفيما يبدو فقد سطا الشريف الرضي (وهو ابن نقيب الطالبيين ببغداد، وتلك ليست مصادفة) على النص وراح يحاكيها في رطانة لغوية يكشف كودها اللغوي والدلالي عن زمن كتابتها. نص طويل، من رجل شهير له مريدوه، إلى قائد شهير له مشايعوه، يختفي لأربعة قرون! ليس ذلك العهد وحسب بل ٢٤١ خطبة لعلي، ومواعظ ورسائل عديدة، كل ذلك الحشد من النصوص يتخلق فجأة من العدم دفعة واحدة مطلع القرن الخامس. لنستمع إلى الذهبي ليخبرنا عن نهج البلاغة، كتاب علي وحكمته وفلسفته: كتاب مكذوب. أما ابن تيمية فيتحدى أن يأتيه أحد بمصدر واحد لتلك النصوص في كل مؤلفات المؤرخين والمحدثين (عدا السرقات المباشرة- وفقا لابن تيمية- من البيان والتبيين للجاحظ). 

لنعد إلى الأشتر ونتتبعه في طريقه إلى مصر: 

 كأن العهد الذي اخترعه الشريف الرضي، ناسبا إياه إلى علي، محاولة متأخرة من مثقف هاشمي لصرف الأنظار عن السياق التاريخي الذي أحاط بموت الأشتر.

 كان علي يدرك أنه يتعامل مع محارب قاد الاضطرابات من العراق حتى الحجاز، معه مدد وأعوان، وقد صنعت له الجمل وصفين صورة البطل الذي لا يقهر، والعبقري الذي شق جيش معاوية وكاد يفتك به لولا الخديعة. تلك الصورة اللامعة، فضلا عن موهبة خطابية ولغوية (الذهبي، سير أعلام النبلاء)، جعلت الأشتر بديلا محتملا لحاكم في الستين من عمره تصفه كتب السير بالبدين، الأصلع كالطاسة، ناتئ الجبهة، عظيم البطن، الأعمش، قليل الأسنان، وثقيل الحركة. 

وقبل أن يتوغل في أراضي مصر يفقد الأشتر حياته في ظروف غامضة، وتقيد العملية ضد مجهول. سيقال إنه أكل عسلا واختنق، وستحيل بعض المرويات موته إلى معاوية، وأخرى إلى غلام لعثمان. وسنقرأ عند الطبري في تاريخه عن عملاء دفعهم معاوية لاغتيال الرجل قبل أن يصل مصر. كل تلك الروايات لا تستقيم داخل سياق تاريخي معقول، فكيف يعلم معاوية بتولية الأشتر، ويتتبع طريقه حتى حدود مصر، ويتمكن من اختراق موكبه واغتياله. لنأخذ كل هذا الهراء التاريخي داخل صورة ذلك الزمان: أمصار متباعدة، لا وسائل اتصال، وأجواء حرب وشك. 

 يموت خصم جديد لعلي، أو يقتل، فيبكي فراقه قائلا "لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر" (نهج البلاغة). حدث قبل ذلك أن بشر قاتل الزبير بالنار، وتلك سابقة في الإسلام أن يدفع القائد جنوده للقتال ثم يبشرهم بالجحيم. كان علي يفعل الشيء ونقيضه، ويستعين بترزية أحاديث وقصاصين جعلوه متساميا فوق البشر، حتى إن ابن كثير وهو يسرد مقتل عثمان ختم القصة قائلا "وكان قدرا مقدورا" لئلا ينزلق إلى تساؤلات حول دور علي قد تضعه في درجة المنافق "لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"، قال علي عن نفسه. وهو تحوير مذهل لوصف قاله النبي في الأنصار، كما في صحيح مسلم. 

 بعد عام سيفتك علي بالآلاف من رجاله السابقين في معركة النهروان ممن اعترضوا على إدارته العسكرية والسياسية، ورأوا أن قدراته الفقهية أقل من أن تكون موضع احترام. سيسميهم الخوارج، وسيحتمي بالقدرة المعرفية لابن عباس، الذي سيدير الجدل معهم بينما سيلزم الحاكم منزله كعادته، في انتظار ما تجود به قدرة ابن العم. سيندفع رجاله، كالعادة، لتفصيل أحاديث تنال من خصومه بالصفة، وأحيانا بالاسم، حتى ليقال إنهم مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية. 

ومن المثير، كما بينا سابقا، أن ابنه الحسن سيرسل إلى أولئك المارقين يدعوهم للقتال إلى جواره ضد جيش الشام، وبعد نقاش سيوافقون ويلتحقون بجيش "الحسن المجتبى". سرعان ما سيتخلون عنه بعد أن رأوا فرار قائده، ابن العباس، لمجرد سماعه طبول الحرب.

على أن تلك اللعبة، لعبة الإرهاب والدين والخديعة، قضت في نهاية الأمر على أول دولة علوية في التاريخ.


مروان الغفوري

الأحد، 21 أغسطس 2022

عليٌّ .. المالك أم المملوك؟ كيف خسر مصر، وأخاف الناس

 الكاتب : الدكتور مروان الغفوري

عليٌّ .. المالك أم المملوك؟

كيف خسر مصر، وأخاف الناس

ــــ

من عَجَب أن الرجل الذي عاش في المدينة ساكتاً لربع قرن، منذ موت النبي حتى مقتل عثمان، صار فجأة ظامئاً للدماء فيخوض ثلاثة حروب ضد المسلمين يداني ضحاياها [قتلى وجرحى] الربع مليون. وقعت الحروب الثلاثة في سنوات حكمه الثلاث الأولى، وكان بمقدوره في كل مرة تلافي الذهاب إلى الحرب. يعرف دارسو سيرته، السنة والشيعة على السواء، أنه كان يفتقر إلى الخبرة الدبلوماسية، وإلى الكياسة، ويغمغون قائلين إن ذلك يعود إلى امتلاك الرجل للحقيقة المُطلقة التي لا تقبل المناورات. يمكننا إحالة الأمر إلى استملاك فكرة "الحق الإلهي" لذهنه، وسيطرتها على خياله، وفوق ذلك إلى عزلة طويلة في المدينة خارج الحقل السياسي، وحتى الفقهي كما يذهب ابن تيمية في المنهاج. كان يرى أن قدره أن يأمر فيُطاع، كما كانت الأمور تجري مع النبي. لم يتقبل حقيقة أنه رجل من المسلمين، وأن صلة القرابة بينه وبين النبي لا تمنحه أفضلية على سائر الناس، وأن ذلك كان سر حيوية الإسلام وجاذبيته .. آنذاك. 

 

خبر ولايته [إمرته] لم يكن بالأمر الهيّن على كثيرين من أصحاب النبي، على وجه الخصوص أولئك الذين اشتغلوا بالسياسة والحرب وعرفوه عن قُرب. فهم يعرفون تسرّعه وغضبه، وأكثر من ذلك يدركون إيمانه المُطلق بحق أهل بيته في الحُكم. فهذا عبد الله بن سعد بن أبي السرح، حاكم مصر والجنرال الذي قاد المعركة البحرية ذات الصواري في مواجهة إمبراطورية روما الشرقية، يقول لمن أبلغه بوصول الخلافة إلى علي بن أبي طالب إنها مصيبة تعدل مصيبة مقتل عثمان [ابن الأثير، الكامل في التاريخ]. ويفرّ عُبيد الله بن عمر بن الخطاب إلى الشام ما إن منح علي نفسه لقب "أمير المؤمنين"، ولذلك سبب. فقبل 12 عاماً سدد أبو لؤلؤة طعنات إلى الخليفة عُمر وهو يصلي الفجر، ومات في اليوم نفسه. سرت شائعة، قيل إن مصدرها عبد الرحمن بن أبي بكر، تتحدث عن مؤامرة خطط لها الهرمزان، وكان فارسياً أسلم وأقام في المدينة. حمل عبيد الله سيفه وقتل الهرمزان انتقاماً لأبيه، ثم قتل زوجة أبي لؤلؤة ورجلاً آخر. كانت حادثة عويصة وجد لها الخليفة الجديد مخرجاً بأن جعل من نفسه ولي دم القتلى، ودفع الدية. كان لعليّ رأي آخر: أن يُقاد ابن عمر بن الخطاب، أي يُقتل، الرأي الذي نشر موجة استياء وتوجس في مدينة دفنت للتو أباه الخليفة، وقال الناس "الله الله، أمس عُمر واليوم ابنه". تجاوز عثمان الامتحان الأخلاقي العسر من خلال تكييف فقهي للقضية التي صارت شأناً سياسياً. أما علي فقال لعُبيد الله "والله لأن ظفرت بك يوماً لأقتلنك بالهُرمزان" [البلاذري، أنساب الأشراف. ج4. العاملي، وسائل الشيعة،ج.1. ابن حجر، الإصابة. وآخرون]. 

 

لندع ابن الأثير يكمل الحكاية في أسد الغابة: "لما ولي عليّ الخلافة أراد قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب فهرب منه إلى معاوية، وشهد معه صفّين، وقتُل في بعض أيامها". من اللافت للنظر أن عليّاً الذي اضطربت مملكته منذ اليوم الأول وجد وقتاً للتفكير في "دم الهرمزان"، الذي قتل في حقبة سابقة، ولم تتسع عدالته للقصاص لدم الخليفة عثمان. حين تعلّق الأمر بتلك المسألة، عثمان، قال عليّ للوفود التي طالبته بحسم مسألة قتلة الخليفة قبل كل شيء "كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم" [ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم]. سيبقى في قبضتهم، يملكونه ولا يملكهم، حتى يوم وفاته بواحد من تلك السيوف. 

 

بعد مقتل عُمر بحوالي عقدين من الزمن سيُقتل عليّ، وسيذهب أبناؤه لينتقموا لمقتل أبيهم. في حالة عُمر قام بالجريمة ولد واحد، هو عبيد الله. أما في حالة عليّ فإن الأبناء يتسابقون على جسد الرجل المصفّد،عبد الرحمن بن مُلجم، وهذا ما يفعلونه: 

[.. قطعوا يده ثم رجله، وكحلوا عينيه بمسمار محمى، وقطعوا لسانه، ثم أحرقوه في النار]. 

 

شارك في تلك العملية الثلاثة: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب.  

 

ذلك ما جرى بحسب هؤلاء المؤرخين:

ابن الأثير في الكامل، ابن أبي الحديد في شرح النهج، تاريخ أبي الفداء، الديار بكري في تاريخ الخميس، ابن عمرو الشيباني في تاريخ الآحاد والمثاني، وفي مصنّف عبد الرزاق الصنعاني، وآخرين.

 

 ولا بد من إشارة هُنا إلى الحسن بن علي، الاستثناء الذي يؤكد القاعدة: نهاهم الحسن عن ذلك الفعل القبيح ولم ينتهوا، كما ينفرد عبد الرزاق الصنعاني.

 

المؤكد في التاريخ السياسي لعلي أنه كان يبادر إلى الحرب وإسالة الدم مع كل خصومه، كان يذهب إليهم مزوّداً بحشود من المتمرّدين الذين حاصروا المدينة واغتالوا سلفه. سنواصل تتبع تلك الرحلة وإعادة النظر في جوانبها العديدة حتى يتسنى لنا تخيّل المآل الأليم الذي انتهت إليه في العام 40 للهجرة، بمقتل الرجل على يد أحد جنوده [قاتل ابن ملجم إلى جوار علي في الجمل وصفّين، وكان متشيّعاً له بادئ الأمر].

 

الطبيعة المتعالية لعليّ الحاكم، وما تمتح منه من إيمان غائر بالنقاء العرقي والاصطفاء السماوي، جعلت البلدان تهوي من بين يديه. فبعد أن رفضت بلدة مصرية يقال لها خريتا مبايعة علي أرسل والي مصر قيس بن سعد بن عبادة رسالة إلى علي يطلب منه التماس العذر لأهل البلدة. سرعان ما وصله خطاب غاضب من علي يأمره فيه باقتحامها وإعمال السيف فيها. احتار قيس أمام تلك السياسة فكتب إلى عليّ قائلاً "إني قد عجبتُ من سرعتك إلى محاربة من أمرتني بمحاربته من عدوك، ومتى ما فعلت ذلك لم آمن أن يتساعد أعداؤك ويترافدوا ويجتعموا من كل مكان فيغلظ الأمر وتشتد الشوكة" [البلاذري، أنساب الأشراب. ابن الجوزي، مرآة الزمان. وآخرون]. 

 

دفع قيس ثمن تلك النصيحة، وسلّم علي حكم مصر إلى رجل من خاصته اسمه محمد بن أبي بكر، نزولاً عند رغبة ابن جعفر بن أبي طالب، وكان أخا محمد من الأم. تلاعب الصبيان بعقل علي وتدخلوا في تعيين الولاة وعزلهم، وكذلك فعل المتمرّدون. ولنرَ ماذا جرى لمصر عقب هذا القرار. يروي المجلسي في بحار الأنوار أن محمداً بن أبي بكر ما إن استلم الحكم حتى هدد بطرد أهل البلدة وتشريدهم، قال "إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا من بلادنا"، فردوا عليه "لا نفعل، دعنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس فلا تعجل علينا". هاجم محمدٌ أهل خريتا، وفيها يزيد بن الحارث مع أهل كنانة، ولكنها قاومت وقتلت قائدين على الأقل من رجال علي بن أبي طالب [ابن الأثير، الكامل في التاريخ. ج3].

 

 توسّعت المعركة، ولبشاعة ما حل بالقرية ثار الناس في مصر واضطرب الأمر على حاكمها. حدث ما حذر منه قيس، ودعا معاوية بن حديج، وكان يمنياً مُهاباً هناك، إلى الثورة ضد والي عليّ على البلاد. لم يكُن معاوية بن أبي سفيان بعيداً عمّا يجري في مصر. كان ابن أبي سفيان قد أخذ سمة الإمبراطور وهو لا يزال والياً عادياً لعمر بن الخطاب، إذ يذكر الطبري في تاريخه وابن عبد البر في الاستيعاب أن عُمراً قال لوفد الشام "تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية". أدرك محمد بن أبي بكر أن مصيراً مشؤوماً ينتظره فكاتب عليّاً يطلب منه النجدة، ولكن عليّاً كان أحوج منه إلى من ينجده، فقد علق في بلاد غريبة وأحاط نفسه بالأعداء من كل جانب. وبينما هو يفكّر في كيف يمنع سقوط مصر في قبضة خصمه دخل عليه المقربون منه من أهل الكوفة وفتحوا معه حديثهم المُعاد عن أبي بكر وعمر، فيتململ عليّ معاتباً "هذه مصر يُقتل بها شيعتي وعندكم وقتٌ لهذا الحديث"[ابن قتيبة، الإمامة والسياسة]. عجز حاكم الكوفة، الذي لا يزال يظن أنه أميرا للمؤمنين في كل الأمصار، عن اجتراح حلّ عاجل ينقذ درّة الإمبراطورية فارتكب خطأ خطيراً لا يقل سوءاً عن إقالة قيس بن سعد عن مصر وتنصيب مراهق ساهم في قتل عُثمان. ما إن فتح محمد بن أبي بكر رسالة علي حتى وجد بها هذه النصيحة: "انتدب كنانة بن بشير السكوني"، وكنانة ذاك هو الرجل الذي يقول أهل مصر، وسائر الأمصار، أنه ضرب الخليفة عثمان بعمود على رأسه. ظنّ علي أنه قادر على إخضاع كل الناس من خلال إطلاق المتمرّدين وقتلة عثمان عليهم، كم فعل في العراق وأماكن أخرى. ما كان للسكوني أن يغير من خط سير المعركة. 

 

 وبعيداً عن مصر جلس علي مأزوماً حائراً، ودعا ربّه "الحمدلله الذي ابتلاني بمن لا يطيعني إذا أمرت، ولا يجيبني إذا دعوت" [الثقفي، الغارات. الطبري، التاريخ. البلاذي، الأنساب]. عملياً يعترف عليّ هُنا أن قومه قد خلعوه، فهو هُنا كما في خطب وتأملات أخرى يتحدث عن عصيان مدني شامل ضرب مركز إمارته: العراق، وجعله غير قادر على إدارة أيّ من معاركه. في الأثناء تلك دخل الخوارج الكوفة على ظهور الخيل، بعد مساومات سياسية كان عليّ فيها الطرف الأضعف، وأشيع بين الناس "لقد تاب أمير المؤمنين" [البلاذري، الأنساب]. كان ذلك قبل أن تتدهور الأمور بين الطرفين إلى حرب النهروان الشهيرة. 

 

 تحركت الرمال من تحت أقدام "أمير المؤمنين"، وتحققت نبوءة قيس بن سعد: إن فعلت ذلك لم آمن أن يتساعد أعداؤك ويترافدوا ويجتعموا من كل مكان. ساءت الأحوال فاتخذ عليّ قراره الأخير بشأن مصر: إرسال مالك الأشتر. قبل أن يتوغل الأخير في أراضيها يفقد حياته، ويحاط بموته غموض دامس. بعد موت الأشتر يرسل عليّ خطاباً إلى محمد بن أبي بكر يعتذر منه على قرار إقالته، ويثبته على حُكم مصر، ولكن الثورة كانت قد دخلت في طريق اللاعودة، وينجح الثوار في قتل الحاكم كما بيّنا سابقاً والتنكيل بجثته. تنضم مصر إلى إمبراطورية الشام الآخذة في التصاعد، وينكمش علي في "مضيعة من الأرض" كما حذره ابنه الحسن، وكان رجلاً يتمتع بقدر من الحدس والمخاوف الوجودية. يحدثنا ابن أبي حديد، المعتزلي الأشهر، كيف أن الحسن راجع أفكار أبيه بخصوص معركة الجمل فغضب الأب ورماه ببيضة حديد "عقرت ساقه" فعولج منها شهرين [ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج.2]. كان يملك الحقيقة المطلقة، يظن، وفي سبيلها يقول ويفعل ما يشاء. فلم يكن ليتردد لحظة وهو يقول إنه سمع رسول الله يقول عن الخوارج "طوبى لمن قتلهم وقتلوه". لم يُعرف حديث واحد، في كل السنة، يمجّد فيه النبي القتل، ويحرّض عليه، عدا الحديث الذي رواه علي عن خصومه الخوارج. 

 

تذهب الظنون في مقتل الأشتر إلى أكثر من جهة، وينقسم المؤرخون إلى فريقين: فريق يقول إن معاوية دفع رجلاً ليدس له السم في العسل، وآخر يقول إن الرجل اختنق بالعسل وما من جنحة في الأمر. وثمّة اعتقاد، أشرنا إليه في مقالة سابقة، أن عليّاً أراد التخلص من أركان حربه بعد أن عجز عن السيطرة عليه. إذا ما أخذنا ما قاله المؤرخون، ونحّينا جانباً فكرة صراع على السلطة داخل نظام علي، فسنصل إلى هذا الاستنتاج: أراد عليّ أن يعاقب أهل مصر بقتلة عثمان، بمن لا يرقبون في النّاس إلّا ولا ذلة. 

 

وبينما هو يحاول أن يستطلع أخبار الشام قبل صفين عاد إليه رسوله جرير البجلي بتقرير مفصّل عمّا يعتمل هناك من رفض وغضب بسبب مقتل عُثمان، ويلمح إلى أن الحرب الآن لن تكون قراراً صائباً، فيهب مالك الأشتر، وكان حاضراً اللقاء، لينهر الرجل ويهينه ويطالب بإبعاده وحبسه. وجرير ذاك روى عنه البخاري عشرة أحاديث، وقال عن نفسه "ما حجبني النبي منذ أسلمتُ". لم يكن الأشتر بالذي يقيم وزناً للتاريخ الفردي والجماعي لذلك الجيل. يصدّقه علي، ويندفع خلفه، ويخطب من وقت لآخر في الناس "ثم إن الله يفرج الفتن برجل منّا آل البيت" [المجلسي، بحار الأنوار. ابن أبي حديد، شرح النهج]. ولكن الرجل من آل البيت شرب من الفتن حتى غرق، وستغرق من بعده سلالته لمئات السنين، ذلك أنها حملت كتابه بين يديها وقرأته..  

 

 ولنلق نظرة على طريقة الأشتر في حل المسائل الشائكة: 

حين وصل جيش علي إلى الرقّة ووجد نهر الفرات أمامه توقّف في مسيره. ولما رآه أهل البلدة قاموا بضم سفنهم إليهم كي لا يعبر عليها جيشه إلى الشام. فقام الأشتر وخطب متوعداً "أقسم بالله لئن لم تعملوا جيشاً يعبر عليه أمير المؤمنين لأجردّن فيكم السيف ولأقتلن الرجال ولآخذ الأموال" فأصيب القوم بالرعب وقالوا "إنه الأشتر، وإنه قمن بأن يفي لكم بما حلف عليه ويأتي بأكثر منه" وأقاموا له جسرا. [ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج.3]. كان الأشتر كلب أمير المؤمنين المفترس، لا يعرف الرحمة، وهو هنا يهدد بلدة آمنة بذبح رجالها وسلب أموالها إن لم تعمل في خدمة جيش أمير المؤمنين. نحواً من ذلك، كما بيّنا سابقاً، تعامل محمد بن أبي بكر مع بلدة مصرية تحفّظت في تأييد علي. ظنّ عليّ أنه قادر على فرض سلطانه بسيوف المتمرّدين والمراهقين وقطاع الطرق، فالمؤرخون ينقلون أن كل ذلك كان يحدث في معيته وتحت سمعه وبصره. 

 

من الملائم هُنا، قبل أن نترك سيرة محمد بن أبي بكر، إن نذكر واحدة من أطرف المراسلات في التاريخ الإسلامي، جرت بينه وبين معاوية. تسلّم معاوية رسالة من محمد يأمره فيها بالخضوع لعلي فهو .. [وسرد فضائل بني هاشم على سائر الخلق]. وجاءه رد معاوية هادئاً وصادماً:

 [..فدَعا أبوك وعُمر عليّاً إلى أنفسهما فبايع لهما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما حتى مضيا وانقضى أمرهما. ثم قام عثمان ثالثا يسير بسيرتهما ويهتدي بهديهما فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي وظهرتما له بالسوء. ولولا ما سبقنا إليه أبوك وأنه لم يره موضعاً للأمر ما خالفنا علي بن أبي طالب ولسلمنا إليه. ولكنا رأينا أباك فعل أمراً اتبعناه واقتفونا أثره. فإن كان ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله، وإن كان خطأ فأبوك أسسه ونحن شركاؤه، اقتدينا وبفعله احتذينا، فعبْ أباك ما بدا لك، أو دع] كما في أنساب الأشراف للبلاذري.

 

لم يكن ذلك الموقف انطباعاً يخص معاوية، بل موقفاً عاماً من علي بين مجايليه. يشير معاوية هُنا إلى أمر مثير: تجاهل الخليفتين أبي بكر وعُمر لعلي بن أبي طالب، واستبعادهما له من كل الشؤون. وما كان لمعاوية أن يردد مثل هذا الأمر في رسالة رسمية لو أن التاريخ يقول خلافها. 

 

وكان عمرو بن العاص قد اعتزل السياسة في عهد عثمان ونزح مع بعض أهله إلى فلسطين، وقد بلغ الثمانينات من عمره. وحين بلغه خبر إمرة علي جمع أبناءه وشاورهم قائلاً إن الخلافة قد ذهبت إلى من ليس جديراً بها. ثم اتخذ قراراً بالعودة إلى السياسة مسكوناً بهاجس أن تنهار الإمبراطورية، وبعد أن قال له أحد أبنائه "أنت ناب من أنياب العرب" ونصحه بأن يفعل شيئاً كي لا تنفلت الأمور، فترك فلسطين وذهب إلى العاصمة الجديدة.  

 

 تشبّع عليّ بغرور القوة قبل أن يحصل عليها، وهو الذي قال عن المتمردين إنهم يملكونه ولا يملكهم، ونهر المغيرة بن شعبه حين نصحه بالإبقاء على عُمّال عثمان ولو لبعض الوقت حتى تستتب له الأمور. أجابه عليّ، كما يروي الواقدي في فتوح الشام: والله لا وليت هؤلاء أبداً. يتسع حزام المواجهة بين عليّ وكل الجيل الذي عاش في زمنه، وليس مستغرباً أن يذهب إلى معاركه تاركاً خلفه عشرين ألف صحابي في المدينة غير آبهين بحروبه. لم يكن حريصاً على التحرّر من دم الخليفة، بل ذهب يطرد كل عُمّاله من الأمصار، ليحيط نفسه بمزيد من الريبة والشكوك ويوسع من دائرة الرفض. يتذكر ابن عبّاس أنه نصحه بالذهاب إلى مكّة والاعتكاف هناك، وأن ينتظر، فإن كان للعرب حاجة إليه فسوف تأتيه. النصيحة نفسها ذكّره بها ابنه الحسن وهما في طريقهما إلى الكوفة لمساندة المتمرّدين ضد عائشة. 

 

يتبع ... 

لا طالباً ولا مطلوباً. غرق أمير المؤمنين في صحراء العراق

الكاتب : الدكتور مروان الغفوري

تراسل الرجلان، معاوية وعلي، لثلاثة أشهر قبل معركة صفّين. ذكّـره معاوية بالجد المشترك: عبد مناف. بالنسبة لعلي فإن الجد الواحد لا يعني الفضيلة نفسها، ولا النقاء نفسه. "نحن بنو هاشم في أيدينا فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز وأعززنا بها الذليل" يرد عليّ على رسالة معاوية كما في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة. سيكرر علي الحديث نفسه مع الخوارج حين رفضوا التحكيم وحاججوه بالقرآن، قال لهم "بنا هداكم الله".

 

 وقف في العراق وحيداً، إلى جواره قطاع الطرق وبدو شمال الحجاز والجماعة التي ستصير الخوارج، وراح يقدم نفسه كعلم الهدى. يعالج الجاحظ في "العثمانية" ورطة علي، يقول إن كان الأمر كما ذكرتم (من أفضلية الرجل وفضله) كيف لم يقف يوم الجمل ويوم صفين أو يوم النهر في موقف يكون من عدوه بمرأى ومسمع، ولذكّر الناس بفضيلته التي سمعوها عن رسول الله، ولكان ذلك أشد وقعاً عليهم من مائة ألف سنان". 

 

يحاجج مشايعوه، من السنة والشيعة، بالإحالة إلى قائمة مناقبه، وهي قائمة من الأوصاف لا علاقة لها بالأفعال، معزولة كلياً عن سياقها التاريخي، يمكننا القول إنها نصوص مهملة بالنسبة لدارس التاريخ. 

وقعت المعركة، واشتبك الجيشان. 

 

ولمّا مالت الشمس إلى الغروب نظر معاوية إلى أرض المعركة وهاله ما رآه. حدث الشيء نفسه على الضفة الأخرى، وكان الرجال يدفنون الخمسمائة جثة في مقبرة واحدة [أنساب الأشراف للبلاذري]. اجتمع معاوية بمستشاريه، وكان عمرو بن العاص أقربهم. كان يبلغ من العمر، آنذاك، 87 عاماً. أبدى الإمبراطور تخوفه من سير المعركة على ذلك النحو، فمن شأن تلك الحرب المميتة أن تغري الروم بالهجوم على الشام، والفرس بالانقضاض على العراق. كان من الممكن ـ فكّر الإمبراطور بشأن مملكة العرب ـ أن تضع صفين نهاية لما أنجزه الآباء المؤسسون الثلاثة: أبوبكر، عمر، عثمان. على الضفة الأخرى يلتقي علي بمستشاريه ويساررهم بمخاوفه: إن استمرت الحرب على هذا النحو فقد يهلك بنو هاشم. وفي رواية: خوفا على ولديه.

 علي، كعادته، يفكّر بأمر أسرته. 

 

لافت للانتباه إيمان علي بنفسه وذريته، إيمان ذو طبيعة بيولوجية، كل معارك الرجل وتيهه ناشئ عن ذلك الإيمان: نحن خير الناس. رأى الناس، وهو غلام صغير، يتحلقون حول النبي فتخيل الأمر على طريقته.

 

 لنفتح العقد الفريد، لابن عبدربّه، ونلقِ نظرة:

دخل الأشعث بن قيس الكندي على علي وبين يديه صبيّة. يسأله عنها فيرد علي: هذه زينب بنت أمير المؤمنين. يقول الأشعث: زوجنيها، فينهره علي: أغرّك ابن أبي قحافة حين زوجك أم فروة؟ إنها لم تكن من الفواطم ولا العواتك من سُليم. قال الأشعث: زوجتم أخمل مني حسباً وأوضع مني نسباً، المقداد بن عمرو، وإن شئتم المقداد الأسود. قال علي: ذلك رسول الله فعله [ابن عبدربه، العقد الفريد، ج. 2/ 442]. 

 

وللمقداد بن عمرو قصة أخرى مع علي تدور في السياق نفسه، سياق السلالة التي لا بد أن تبقى نقية من وجهة نظر علي.

 

 يقرر النبي تزويج الشاب اليماني الدخيل على قريش، والذي سيلقب بالمقداد بن الأسود نسبة إلى كفيله القرشي. يرسل النبي عليّاً ليخبر ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، ابنة عم النبي، بالخبر. يعود علي إلى النبي بالجواب: إن ضباعة كرهت الأمر. يرسل النبي رجلاً آخر، وما إن يسألها حتى تقول: لقد أبلغت عليّا بردي، قلتُ له الأمر ما يراه رسول الله [الجاحظ، العثمانية]. يمرر الرسول قراره ويزوج ابنة عمّه إلى رجل فرّ من حضرموت بجنحة. أخفى عليّ الحقيقة على النبي، فلم يكن ليحتمل أن تتزوج امرأة هاشمية من حضرمي لا يعرف عنه سوى دينه. وهل ذلك بأمر ذي بال؟ سيخفي الكثير أيضاً. فعندما يتذكر معركة بدر يقول: لم يكن فينا فارس سوى المقداد بن عمرو. وحين يتذكر غيره تلك المعركة يقولون: والزبير بن العوام. كان الزبير خصمه، وسيسقط قتيلاً على أيدي رجاله، وحين يسرد علي التاريخ يحاول حرمان الزبير من ذلك الشرف، شرف أن يكون أول من أشهر سيفه في الإسلام، وأول من ركب فرساً في حروب الإسلام.

 

 صاحب عليّ الرسول في حياته ولم يتعلم منه فضيلة التواضع. كان تعاليه على الناس، على المهن، وعلى رفاقه سبباً وجيهاً لنأي الناس عنه. لحظة اختيار عثمان بن عفان خليفة لعُمر تكشف جانباً من موقف الصحابة تجاه الشاب الذي سيعيش حتى آخر عمره معتقداً أن الله اختار بني هاشم لنقاء عرقي فيهم. يعيش معهم، وحين يختلفون عنه أو معه يفاجئهم بما لا يعرفونه. ففي صحيح مسلم أنه قال: والذى فلق الحبة وبرأ النسمة أن النبى الأمى قال لى ألا يحبنى إلا مؤمن ولا يبغضنى إلا منافق. احتكر لوحده هذه الأفضلية، والمنافق ليست نعتاً بقدر ما هي حكماً بالنار "خالداً مخلداً فيها". في منهاج السنة [الجزء السابع، ص. 529/530] يرد ابن تيمية على من قال إن الفقهاء كانوا يلجأون إلى علي. يقول : إن هذا كذباً بيناً. أهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي، بل أخذوا فقههم عن الفقهاء السبعة، عن زيد وعمر وابن عمر ونحوهم. في موضع آخر من منهاج السنة يقرر ابن تيمية أن كثيرين من أهل المدينة لم يكونوا يحبّونه. وهو ما سيردده المجلسي في بحار الأنوار محيلاً الأمر إلى رغبة أهل المدينة في حرمان آل بيت النبي من حقّهم. 

 

التاريخ يقول شيئاً آخر، فالرجل الذي يحمل اسم "علي" كان متعالياً، ولم يكن يفعل شيئاً، وقد انفرد دوناً عن كل أصحاب النبي بأحاديث تمجده شخصياً. الأمر الذي جعل كل المحدثين يأخذونها عن لسانه ويفردون لها باباً أسموه مناقب علي. الحديث، في النهاية، تاريخ. وما دام قد نسب مناقبه إلى النبي فلتوضع في الكتب كما هي. والآن نتساءل: تلك المناقب [المدائح]، فأين الأفعال التي تؤكدها؟ يذهب الجاحظ بعيداً جداً في مواجهته لأكذوبة المناقب، يخترق طفولة علي ويصوّرها على نحو بديع. يخلص الكاتب الأشهر إلى القول: لقي القوم من الجهد والخوف والذل والتطراد والضرب ولم نسمع لعلي في ذلك ذكراً. للجاحظ استخلاصه المهيب في تلك المسألة: عاش عليّ في قريش لا طالباً ولا مطلوباً.  

  

لنعد إلى صفّين، إلى ذلك الاختبار المهيب لقدرة علي على الرئاسة والحرب: 

المملكتان، العراق والشام، أمام اختبار جهد حاسم. الحرب أخذت مستويات معقدة ومركبة: هي حرب الحجاز واليمن، هي حرب علي ومعاوية، هي صراع ثأري داخل مُضر، هي معركة العراق والشام، وهي ظلال لحروب روما وفارس. كل ذلك مجتمعا. قبل الحرب كان خطباء الشام يحرضون أهلها على العراقيين، وكان العراقيون يمنون أنفسهم بخراج الشام وزرعه. وعندما شرع الحكمان في كتابة وثيقة الصلح وكتبا "هذا ما عاهد عليه أهل العراق أهلَ الشام" انتفض أهل الشام ضد أن يكتب اسم العراق قبل اسم بلادهم. أمر لا بد أن نضعه في الحسبان: الشام، كما هي في جغرافية ذلك الزمن، كانت تمتد من غرب العراق إلى سيناء. ما يعني أن معاوية كان حاكماً على الجزء الأكثر كثافة وحيوية داخل الإمبراطورية الإسلامية، وهو ما يفسر الانضباط المثير للإعجاب الذي بدا عليه جيشه.

 

 وافق معاوية على فكرة التحكيم، ورفضها علي بادئ الأمر، أراد أن يمارس حقه كقائد، وكانت المفاجأة أن دخل في صدام مباشر مع الحفاظ، ثم مع باقي جيشه. تقدر مصادر تاريخية عديدة الحفاظ بثلاثة آلاف جندي في جيش علي. أمام هذه المعضلة قبل بالتحكيم، مضافاً إليه مخاوفه الخاصة على مصير آل النبي من حرب ضارية. سيضيف ابن أبي الحديد سبباً آخر وجيهاً. قال علي لأصحابه معللاً: إنما فعلت ما فعلت لما بدا فيكم من الخوف والفشل عن الحرب. أعلن القائد، إذن، فشل حربه، وانهيار معسكره، وبدأ يتلاسن مع رجاله كما يجري عقب كل حرب فاشلة. 

 

 غير أن موافقته على التحكيم مثّلت صدمة مباشرة للمتمردين، لقتلة عُمان. قال الأشتر لجماعته "إن يصطلحوا فعلى دمائنا"[الطبري، تاريخ الأمم والملوك. ج.4]. كان موضوع قتلة عثمان هو أول ما سيبحثه الرجلان، وهو ما دفع الأشتر ورفاق لإثارة الفوضى داخل معسكر علي. بعد صدام علي مع الحفّاظ اصطدم بالمتمردين الذين رفضوا إيقاف الحرب. سيتسع التمرّد داخل جيشه حتى يعم الجيش جميعه، كما سنبيّن أدناه. 

 

من المثير أن كل ما كتب عن معركة صفّين وعن التحكيم خرج من العراق، وأن مساهمة الشام في رصد ذلك الحدث تكاد تكون منعدمة. وللتحكيم قصّة غاية في التعقيد سنأتي عليها في المقالات اللاحقة. 

 

 اختار علي طريق السلام مجبراً وسمّى ابن عمّه عبدالله بن عبّاس ممثلاً لدولته في العملية الحوارية التي ستجري في رمضان [آنذاك كان شهرُ صفر من سنة 37]. اختياره لابن عمّه دفعه لصدام مع اليمنيين القليلين الموالين له. بلغ الشك بين كل الأطراف أعاليه، وأجبره اليمنيون والحفّاظ على البحث عن رجل نزيه لا تربطه به علاقة ولا يدور في شبكة مصالحه، وسمّوا له أبا موسى الأشعري. كان الأشعري فقيهاً، وكان قائداً عسكرياً فيما سبق، وكان قد اعتزل معارك علي مع من اعتزلها. جعل عليّ على وفده ابن عبّاس وشريح بن هانئ وآخرين، الجميع تحت إمرة القائد الأشعري الذي جاؤوا به من مكان بعيد. يتوسل ابن هانئ لأبي موسى الأشعري أن يقف إلى جوار علي في هذه المسألة العويصة "التحكيم" ويذكّره قائلاً: قد كانت منك تثبيطة أيام الكوفة والجمل [شرح نهج البلاغة، ابن أبي حديد]. موقف سريالي غير مسبوق، أن يمثّل عليّاً رجلٌ ليس من جيشه ويرفض كل حروبه. بينما يلقي معاوية بأخطر الرجال العرب، بعمرو بن العاص. ولابن العاص ذلك عقلٌ وحكمة لخصهما النبي، كما في حديث صححه الألباني، قائلاً:

 أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص.

 

يشير الجاحظ إلى ورطة علي في تلك الأرض، يقول إن عشرين ألفاً من صحابة رسول الله كانوا في تلك الأثناء يعيشون حياتهم في المدينة غير آبهين بمعاركه. كان وحيداً شديد الوحدة، وبدا له إن إيمانه باصطفاء الله لسلالته دفعه إلى طريق شديد الوعورة، وانتهى به قتيلاً في مضيعة من الأرض، كما توقع ابنه الحسن. 

 

فكرة السلام التي ألقاها معاوية على خصمه عملت على تمزيق جيش الأخير، وها هي مجموعة رابعة من المعترضين قدرتها مصادر عديدة ب 12 ألف مقاتل ترفض التحكيم جملة وتفصيلاً، مرددة "إن الحكم إلا الله". تصاعد الجدل بين هذه الجماعة، التي ستسمى المحكّمة، وعلي، وستكون أول من ينشق عن جيشه. تفكك جيش علي إلى شطائر وفرق، وتلاسن الناس وكاد يقتل بعضهم بعضاً. 

 

شيء واحد اتفقوا عليه: افتقار القائد للياقة والقدرة على اتخاذ القرار.

 

ستذهب سهير القلماوي في بحث رصين أشرف عليه طه حسين إلى القول إن عليّا سيكون أول حاكم عربي خلعه شعبه [أدب الخوارج]. من المثير معرفة أن شعب علي آنذاك كان جيشه، بخلاف الشام: الأمة والجيش والأرض. يتخذ ابن عبده ربه في العقد الفريد زاوية مثيرة للنظر: لم ينتفض على علي من أصحابه إلا أهل الجد والنجدة، وأصحاب البرانس والبصيرة. يضعنا "العقد الفريد" أمام حقيقة تاريخية مدوية: أصحاب الجد والبصيرة، أي جماعة الحكمة والرأي والفضيلة، ينتفضون على الحاكم. تخبرنا كتب التاريخ أن الرجل فشل سابقاً في إقناع أهل الجد والبصيرة من أهل المدينة ومكة بالانضمام إليه، ومن اكتسبهم من باقي الأمصار تخلوا عنه في اليوم الثاني للحرب.

 

 آل جيشه إلى هرج ومرج، وينتحي الخوارج جانباً وينزلون بمكان غير بعيد عن الكوفة. تدور مفاوضات كثيرة بين الطرفين، علي والخوارج، يتصاعد النزاع بين الطرفين ويحكم الخوارج عليه بالكفر. تسري تلك الفتوى كالنار في الهشيم، فيرد عليها عليّ بحشد معروف من القصص التي ستظهر لأول مرة عن الخوارج. تستهدف القصة الأهم أحد أبرز فقهائهم: حرقوص بن زهير التميمي. تقول القصة إن النبي وصفه قائلاً "يخرج من ضئضئ هذا [أي من أصله ومعدنه] رجال تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". يُقتل التميمي في معركة النهروان ويتعرف علي على جثته، أو على ثديه الذي يشبه ثدي المرأة. لندع التاريخ يفاجئنا كعادته: كان حرقوص التميمي من رجال علي، سافر من البصرة إلى المدينة، ساهم في قتل عثمان، ثم صاحب علياً إلى الجمل، وحارب إلى جواره في صفّين، وحين رأى أن الرجل قد خان النظرية، من وجهة نظره، تخلى عنه ثم قاتله. في تلك الرحلة التي استمرت زهاء ثلاثة أعوام، كان فيها الرجلان رفيقي سلاح، نسي عليّ حديث "يخرج من ضئضئ هذاّ" ولم يتذكره إلا قبل معركة النهروان. 

 

يقول رسول علي للخوارج، في أجواء المعركة: سلّموا قتلة عبد الله بن خباب بن الأرت. 

فيرد عليه الخوارج: كلّنا قتلة.

 

 هذه الصراحة الصادمة التي تعامل بها الخوارج مع علي جعلت مفكّرا كبيراً مثل ابن تيمية يصل إلى استنتاجه الشهير: لا يقدر على الروافض سوى الخوارج. يمكننا فهم ما يريد ابن تيمية قوله: لأنهم يقولون الحقيقة كما هي، ضاربين عرض الحائط بقائمة المناقب التي يحملها علي في جيبه في السراء والضراء.

 

سنعود إلى أجواء تلك المعركة لنتعرف على الأمير في متاهته، وهو يغرق في صحراء العراق تاركاً عشرين ألف صحابي في المدينة المنورة لا يعرفون شيًا عن غرقه ولا يفكرون بنجدته. 

 

يتبع ..